النبي أولى بالمؤمنين
من أنفسهم
الإمام الشهيد حسن البنا
يقول الحق تبارك وتعالى: (النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)
(الأحزاب: 6) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
تعالَ معي أيها الأخ القارئ لنقف برهةً أمام هذه الآية
الكريمة، فنستجلي ما فيها من روائع الجمال اللفظي وبدائع
التفضيل المعنوي، ثم نقول بعد ذلك .. ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء.
أرأيت كيف عبَّر القرآن الكريم عن محمدٍ صلى الله عليه
وسلم بالنبي؟! وهل تذوَّقت ما في هذا اللفظ الكريم من
معاني التعظيم والتكريم والشرف العالي والمنحة الخاصة
والمقام السامي الرفيع الذي نبا عن تقدير الناس وسما عن
مقاييسهم وموازينهم؟
وأرأيت كيف عبَّر القرآن الكريم عن الاستحقاق بالولاية
فوقعت كلمة "أولى"
موقع كلمة "أحق"؛ لِما في الأولى من الشعور بأن ذلك
الاستحقاق إنما كان عن الحب والولاء والرغبة والرجاء، لا
عن خوف ولا إرهاب ولا إلزام ولا إكراه.
وأرأيت كيف عبَّر القرآن بكلمة "المؤمنين" ولم يقل "الناس"
أو "المسلمين"؛ لِما في هذه الكلمة من الإشارة إلى أن هذه
الأولوية ثمرة التصديق ونتيجة الإيمان واليقين، كما قال
صلى الله عليه وسلم:
"تالله
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس
أجمعين ومن نفسه التي بين جنبيه"
(انظر صحيح البخاري 1/14 عن أنس).
وأرأيت كيف عبَّر بالأنفس ليدخل في هذه الأولوية كل ما
دونها، وهو كل شيء من مباهج الحياة ومظاهرها، فالأهل دون
النفس، والمال دون النفس، والمسكن دون النفس، والزوج دون
النفس، والعشيرة دون النفس، وإنما يكون حب الإنسان لهذه
العوارض بنتيجة حبه لنفسه وثمرة حرصه على إسعادها، فإذا
جاد الإنسان بنفسه وسخا بروحه فقد جاد بكل شيء، والجود
بالنفس أقصى غاية الجود.
وبعد أيها الأخ الحبيب .. فمع بروق تسطع في قلوب المؤمنين
حين تهطل عليهم سحائب فيض الحب النبوي من سماء الحقيقة
المحمدية، فتهتف بها ألسنتهم، وتجري بها أقلامهم، وإن في
القول بعد ذلك لسعة، وإن ما يبدو في مرآة قلوب العارفين لا
حدَّ له، فسل الله يعطك، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،
وبعد أن ملأت سمعك وقلبك من روائع هذا الجمال هلمَّ
تتفهَّم الآية الكريمة.
إن ربك يقول لك "النبي أحق بك من نفسك"، فنفسك وكل ما تملك
فداءٌ لنبيك وملكٌ لرسولك صلى الله عليه وسلم ووقْف على
مناصرة دعوته وحماية شريعته، ليس لك أن ترغب بنفسك عن نفسه
أو تحتجز روحك أو مالك أو كل ما تملك عن مناصرته، وفي هذا
المعنى وردت الآية الكريمة "وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا"
(الأحزاب: 36) والآية الكريمة "مَا
كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ
الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا
يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ"
(التوبة:120) والحديث الصحيح "تالله
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"
انظر فتح الباري 13/289.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار الرفيق الأعلى
وفارق هذه الحياة الدنيا فإن هذا المعنى ثابت لسنته من
بعده ولشريعته الباقية الخالدة، فهي أولى بكل مؤمن من
نفسه، وأحق به من أهله وماله وأرضه ومسكنه وقومه وعشيرته
والناس أجمعين.
|